فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}.
تعجيب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذٍ.
ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} للحساب والجزاء أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صمًا وعميًا وروي ذلك عن الحسن وقتادة.
وقال علي بن عيسى: هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم ويبصرون ما يسود وجوههم.
وعن أبي العالية أنه أمر حقيقة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه. والجار والمجرور على الأولين في موضع الرفع على القول المشهور.
وعلى الأخير في محل نصب لأن {أَسْمِعْ} أمر حقيقي وفاعله مستتر وجوبًا. وقيل: في التعجب أيضًا إنه كذلك. والفاعل ضمير المصدر {لكن الظالمون اليوم} أي في الدنيا {في ضلال مُّبِينٍ} لا يدرك غايته حيث اغفلوا الاستماع والنظر بالكلية. ووضع {الظالمين} موضع الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم. والاستدراك على ما نقل عن أبي العالية يتعلق بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} {وَأَنذِرْهُمْ} أي الظالمين على ما هو الظاهر.
وقال أبو حيان: الضمير لجميع الناس أي خوفهم {يَوْمَ الحسرة} يوم يتحسر الظالمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى.
وقيل: الناس قاطبة، وتحسر المحسنين على قلة إحسانهم {إِذْ قُضِىَ الأمر} أي فرغ من الحساب وذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وذبح الموت ونودي كل من الفريقين بالخلود.
وعن السدي وابن جريج الاقتصار على ذبح الموت، وكان ذلك لما روى الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رأوه ثم ينادي مناد يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم: هذا الموت وكلهم قد رأوه فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ {وأنذرهم} الآية».
وفي رواية عن ابن مسعود أن يوم الحسرة حين يرى الكفار مقاعدهم من الجنة لو كانوا مؤمنين، وقيل: حين يقال لهم وهم في النار {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} [المؤمنون: 108] وقيل: حين يقال: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} [يس: 59].
وقال الضحاك: ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشرر، وقيل: المراد بذلك يوم القيامة مطلقًا، وروي ذلك عن ابن زيد وفيه حسرات في مواطن عديدة، ومن هنا قيل: المراد بالحسرة جنسها فيشمل ذلك حسرتهم فيما ذكر وحسرتهم عند أخذ الكتب بالشمائل وغير ذلك والمراد بقضاء الأمر الفراغ من أمر الدنيا بالكلية ويعتبر وقت ذلك ممتدًا، وقيل: المراد بيوم الحسرة يوم القيامة كما روي عن ابن زيد إلا أن المراد بقضاء الأمر الفراغ مما يوجب الحسرة، وجوز ابن عطية أن يراد بيوم الحسرة ما يعم يوم الموت.
وأنت تعلم أن ظاهر الحديث السابق وكذا غيره كما لا يخفى على المتتبع قاض بأن يوم الحسرة يوم يذبح الموت وينادي بالخلود.
ولعل التخصيص لما أن الحسرة يومئذٍ أعظم الحسرات لأنه هناك تنقطع الآمال وينسد باب الخلاص من الأهوال.
ومن غريب ما قيل: إن المراد بقضاء الأمر سد باب التوبة حين تطلع الشمس من مغربها وليس بشيء، و{إِذْ} على سائر الأقوال بدل من {يَوْمٍ} أو متعلق بالحسرة والمصدر المعرف يعمل بالمفعول الصريح عند بعضهم فكيف بالظرف، وقوله تعالى: {وَهُمْ في غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} قال الزمخشري: متعلق بقوله تعالى شأنه: {في ضلال مُّبِينٍ} عن الحسن، ووجه ذلك بأن الجملتين في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين، واستظهر في الكشف العطف على قوله تعالى: {الظالمون في ضلال مُّبِينٍ} [مريم: 38] أي هم في ضلال وهم في غفلة؛ وعلى الوجهين تكون جملة {أَنذَرَهُمْ} معترضة والواو اعتراضية، ووجه الاعتراض أن الإنذار مؤكد ما هم فيه من الغفلة والضلال، وجوز أن يكون ذلك متعلقًا بأنذرهم على أنه حال من المفعول أي أنذرهم غافلين غير مؤمنين.
وتعقب بأنه لا يلائم قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [النازعات: 45] وقال في (الكشف): أنه غير وارد لأن ذلك بالنسبة إلى النفع وهذا بالنسبة إلى تنبيه الغافل لبيان أن النفع في الآخرة وهذه وظيفة الأنبياء عليهم السلام عن آخرهم، ثم لو سلم لا مناقضة كما في قوله تعالى: {وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55] كيف وقد تكرر هذا المعنى في القرآن إلى قوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غافلون} [يس: 6] وأما إن قوله سبحانه: {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} نفي مؤكد يشتمل على الماضية والآتية فلا يسلم لو جعل حالًا ولو سلم فقد علم جوابه مما سبق وما على الرسول إلا البلاغ.
نعم لا نمنع أن الوجه الأول أرجح وأشد طباقًا للمقام، وحاصل المعنى على الأخير أنذرهم لأنهم في حالة يحتاجون فيها للإنذار.
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا}.
لا يبقى لأحد غيره تعالى ملك ولا ملك فيكون كل ذلك له تعالى استقلالًا ظاهرًا وباطنًا دون ما سواه وينتقل إليه سبحانه انتقال الموروث من المورث إلى الوارث، وهذا كقوله تعالى: {لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك توفي الوارث لإرثه واستيفائه إياه {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي يردون إلى الجزاء لا إلى غيرنا استقلالًا أو اشتراكًا.
وقرأ الأعرج {تُرْجَعُونَ} بالتاء الفوقية.
وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق وعيسى بالياء التحتية مبنيًا للفاعل، وحكى عنهم الداني أنهم قرؤا بالتاء الفوقية والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال القاسمي:

{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}.
تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ. ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صمًا عميًا. والآية كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12] الآية، أي: يقولون ذلك حين لا يجدي عنهم شيئًا. ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لأجدى: {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ} أي: في الدنيا: {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} لإغفالهم الاستماع والنظر. فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون. قال الزمخشريّ: أوقع الظاهر أعني الظالمين موقع الضمير، إشعارًا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر، حين يجدي عليهم ويسعدهم.
تنبيه:
إنما أوِّل التعجب في الآية بما ذكر، وأنه مصروف للعباد الذين يصدر منهم التعجب، لأن صدوره من الله تعالى محال. إذ هو كيفية نفسانية تنشأ عن استعظام ما لا يدرى سببه. ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب. والمعنى تعجبوا من سمعهم وأبصارهم حيث لا ينفعهم ذلك. فهي كقوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، أفاده الشهاب.
وهذه طريقة المتكلمين في تأويل ما يشترك في الإضافة إليه تعالى وإلى خلقه من الصفات المروية. وطريقة السلف المحققين إثبات ما ورد به السمع مع نفي التشبيه. إذ لا اتحاد بين صفات الخالق وصفات المخلوق. فما يضاف إليه تعالى هو على النحو الذي يجب أن يكون عليه جل جلاله. فما يقدر في حق المخلوقين من الصفات مستلزمًا للمحال، لا يجب أن يكون في حقه تعالى مستلزمًا لذلك. كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا، يستلزم النقص والحاجة، ما يجب تنزيه الله عنه. وكذلك الوجود والقيام بالنفس فينا، يستلزم احتياجًا إلى خالق يجعلنا موجودين. والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا. فنحن وصفاتنا وأفعالنا. مقرونون بالحاجة إلى الغير. والحاجة لنا أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه. وهو سبحانه، الغِنَى له أمر ذاتيّ لا يمكن أن يخلو عنه. فهو بنفسه حيّ قيوم واجب الوجود، ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء. فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال، من العلم والقدرة وغير ذلك، هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان، لم يجب أن لا يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال، وأن لا يقدر ولا يعلم. لكون ذلك ملازمًا للحاجة فينا. فكذلك كل ما جاء به السمع من الصفات، إذا قدر أنه في حقنا ملازم لحاجة وضعف، لم يجب أن يكون في حق الله تعالى ملازمًا لذلك. هذا ما قرره الإمام تقي الدين بن تيمية في خلال بعض فتاويه. وكلامه هذا بمثابة القاعدة الكلية لأمثال هذا الموضوع. فاحفظه.
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}.
أي: فرغ من الحساب وفصل بين أهل الجنة والنار، وصار كلٌّ إلى ما صار إليه مخلدًا فيه: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} أي: وهم اليوم مستغرقون في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة: {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي: لا يصدقون به اليوم وسيعاينونه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}.
الحسرة: اشد الندم والتلف على الشيء الذي فات ولا يمكن تدراكه. والإنذار: الأعلام المقترن بتهديد. أي أنذ الناس يوم القيامة. وقيل له يوم الحسرة لشدة ندم الكفار فيه على التفريط. وقد يندم فيه المؤمنون على ما كان منهم من التقصير وقد اشار تعالى إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ} [غافر: 18] الآية، وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
وأشار إلى ما يحصل فيه من الحسرة في مواضع أخر. كقوله: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يا حسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} [الزمر: 56] الآية، وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ الله حتى إِذَا جَاءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31] الآية، وقوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} [البقرة: 167] إلى غير ذلك من الآيات. وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} أي في غفلة الدنيا معرضون عن الآخرة. وجملة {وهم في غفلة} حالية، والعامل فيها {أنذرهم} أي انذرهم في حال غفلتهم غير مؤمنين. خلافًا لمنقال: إن العامل في الجملة الحالية قوله قبل هذ {في ضلال مبين}. وقد جاء في الحديث الصحيح ما يدل على أن المراد بقوله هنا {إذ قضي الأمر} أي ذبح الموت. قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب قوله عز وجل: {وأنذرهم يوم الحسرة} حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنة فييشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه. ثم ينادي يا أهل الناء فيشرئبون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه. فيذبح. ثم يقول يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39] وهؤلاء في غفلة الدنيا وهم لا يؤمنون»- انتهى منه صحيح البخاري.
والحديث مشهور متفق عليه- وقراءة النَّبي صلى الله عليه وسلم الآية بعد ذكره ذبح الموت تدل على أن المراد بقوله: {إذ قضي الأمر} إي ذبح الموت. وفي معناه أقوال أخر غير هذا تركناها لدلالة الحديث الصحيح على المعنى الذي ذكرنا.
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}.
معنى قوله جل وعلا في هذه الآية: إنه يرث الأرض ومن عليها: أنه يمين جميع الخلائق الساكنين بالأرض، ويبقى هو جل وعلا لأنه الحي الذي لا يموت، ثم يرجعون إليه يوم القيامة. وقد أشار غلى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 26-27] وقوله تعالى: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الوارثون} [الحجر: 23] إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أسمع بهم وأبصر}.
صيغتا تعجب، وهو تعجب على لسان الرسول والمؤمنين، أو هو مستعمل في التعجيب، والمعنيان متقاربان، وهو مستعمل كناية أيضًا عن تهديدهم، فتعيّن أن التعجيب من بلوغ حالهم في السوء مبلغًا يتعجب من طاقتهم على مشاهدة مناظره وسماع مكارهه. والمعنى؛ ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم، أي ما أقدرهم على السمع والبَصَر بما يكرهونه. وقريب هو من معنى قوله تعالى: {فما أصبرهم على النار} [البقرة: 175]. وجُوز أن يكون {أسمع بهم وأبصر} غير مستعمل في التعجب بل صادفَ أن جاء على صورة فعل التعجب، وإنما هو على أصل وضعه أمر للمخاطب غير المعيّن بأن يَسمع ويُبصر بسببهم، ومعمول السمع والبصر محذوف لقصد التعميم ليشمل كل ما يصح أن يُسمع وأن يُبصر، وهذا كناية عن التهديد. وضمير الغائبين عائد إلى (الذين كفروا)، أي أعجب بحالهم يومئذ من نصارى وعبدة الأصنام. والاستدراك الذي أفاده قوله: {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} راجع إلى ما يفيده التقييد بالظرف في قوله: {يوم يأتوننا} من ترقب سوء حالهم يوم القيامة الذي يقتضي الظن بأنهم الآن في سعة من الحال. فأفيد أنهم متلبسون بالضلال المبين وهو من سوء الحال لهم لما يتبعه من اضطراب الرأي والتباس الحال على صاحبه. وتلك نكتة التقييد بالظرف في قوله: {اليوم في ضلال مبين}. والتعبير عنهم ب {الظالمون} إظهار في مقام الإضمار. ونكتته التخلص إلى خصوص المشركين لأن اصطلاح القرآن إطلاق الظالمين على عبدة الأصنام وإطلاق الظلم على عبادة الأصنام، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}.
عقّب تحذيرهم من عذاب الآخرة والنداء على سوء ضلالهم في الدنيا بالأمر بإنذارهم استقصاء في الإعذار لهم. والضمير عائد إلى الظالمين، وهم المشركون من أهل مكة وغيرهم من عبدة الأصنام لقوله: {وهم لا يؤمنون} وقوله: {وإلينا يرجعون} [مريم: 40]. وانتصب {يوم الحسرة} على أنه مفعول {خلَف} عن المفعول الثاني لأنذرهم، لأنه بمعنى أنذرهم عذاب يوم الحسرة. و{الحسرة}: الندامة الشديدة الداعية إلى التلهف. والمراد بيوم الحسرة يوم الحساب، أضيف اليوم إلى الحسرة لِكثرة ما يحدث فيه من تحسر المجرمين على ما فرطوا فيه من أسباب النجاة، فكان ذلك اليوم كأنه مما اختصت به الحسرة، فهو يوم حسرة بالنسبة إليهم وإن كان يوم فرح بالنسبة إلى الصالحين. واللام في الحسرة على هذا الوجه لام العهد الذهني، ويجوز أن يكون اللام عوضًا عن المضاف إليه، أي يوم حسرة الظالمين. ومعنى قضى الأمر: تُمّم أمر الله بزجهم في العذاب فلا معقب له. ويجوز أن يكون المراد بالأمر أمر الله بمجيء يوم القيامة، أي إذ حشروا. و إذ اسم زمان، بدل من يوم الحسرة. وجملة وهم في غفلة حال من الأمر وهي حال سببية، إذ التقدير: إذ قضي أمرهم. والغفلة: الذهول عن شيء شأنُه أن يعلم. ومعنى جملة الحال على الاحتمال الأول في معنى الأمرِ الكناية عن سرعة صدور الأمر بتعذيبهم، أي قضي أمرهم على حين أنهم في غفلة، أي بهت. وعلى الاحتمال الثاني تحذير من حلول يوم القيامة بهم قبل أن يؤمنوا كقوله: {لا تأتيكم إلا بغتة} [الأعراف: 187]، وهذا أليق بقوله: {وهم لا يؤمنون}. ومعنى وهم لا يؤمنون استمرار عدم إيمانهم إلى حلول قضاء الأمر يوم الحسرة. فاختيار صيغة المضارع فيه دون صيغة اسم الفاعل لما يدلّ عليه المضارع من استمرار الفعل وقتًا فوقتًا استحضارًا لذلك الاستمرار العجيب في طوله وتمكنه.
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}.
تذييل لختم القصة على عادة القرآن في تذييل الأغراض عند الانتقال منها إلى غيرها. والكلام موجّه إلى المشركين لإبلاغه إليهم. وضمير {يرجعون} عائد إلى من عليها وإلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في {وأنذرهم} [مريم: 39]. وحقيقة الإرث: مصير مال الميت إلى من يبقى بعده. وهو هنا مجاز في تمحض التصرف في الشيء دون مشارك. فإن الأرض كانت في تصرف سكانها من الإنسان والحيوان كلّ بما يناسبه، فإذا هلك الناس والحيوان فقد صاروا في باطن الأرض وصارت الأرض في غير تصرفهم فلم يبق تصرف فيها إلا لخالقها، وهو تصرف كان في ظاهر الأمر مشتركًا بمقدار ما خولهم الله التصرف فيها إلى أجلٍ معلوم، فصار الجميع في محض تصرف الله، ومن جملة ذلك تصرفه بالجزاء. وتأكيد جملة {إنا نحن نرث الأرض} بحرف التوكيد لدفع الشك لأن المشركين ينكرون الجزاء، فهم ينكرون أن الله يرث الأرض ومن عليها بهذا المعنى. وأما ضمير الفصل في قوله: {نحن نرث الأرض} فهو لمجرد التأكيد ولا يفيد تخصيصًا، إذ لا يفيد ردّ اعتقادٍ مخالفٍ لذلك. وظهر لي: أن مجيء ضمير الفصل بمجرد التأكيد كثير إذا وقع ضمير الفصل بعد ضمير آخر نحو قوله: {إنني أنا الله} في سورة طه (14)، وقوله: {وهم بالأخرة هم كافرون} في سورة يوسف (37). وأفاد هذا التذييل التعريف بتهديد المشركين بأنهم لا مفرّ لهم من الكون في قبضة الربّ الواحد الذي أشركوا بعبادته بعضَ ما على الأرض، وأن آلهتهم ليست بمرجوة لنفعهم إذ ما هي إلاّ مما يرثه الله. وبذلك كان موقع جملة وإلينا يرجعون بيّنًا، فالتقديم مفيد القصر، أي لا يرجعون إلى غيرنا. ومحمل هذا التقديم بالنسبة إلى المسلمين الاهتمام ومحمله بالنسبة إلى المشركين القصر كما تقدم في قوله: إنا نحن نرث الأرض. اهـ.